محمد بن عبد الكريم الخطابي
" أيها الأمير ... لقد جئت إلى القاهرة خصيصًا لكي أتعلم منك " الثائر الشيوعي تشي جيفارا (1960)
" إن هذا الرجل الذي ينادي باسمه أهل آسية وأفريقيا والهند، ويتغنون باسمه... إن هذا الرجل الذي يقاتل باسم الإسلام ويعيد إمارة المؤمنين والخلافة الإسلامية، إنه لخطر عظيم على البلاد الأوروبية "السير كورتي عضو مجلس العموم البريطاني (1921)
" دخلت على عبد الكريم في خندق أمامي، والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة فوجدته متبسماً مرحاً مقبلاً يضرب ببندقيته الطائرات، فتعجبت من هذه الظاهرة البشرية الفريدة" الصحافي الأمريكي فانسن شون (1926)
لم يصدق (عبد الرحمن عزام باشا) أول أمين لجامعة الدول العربية عينيه، وهو يقرأ تلك البرقية السرية التي وصلته من مجموعة من المجاهدين الفلسطينيين واليمنيين والعراقيين في اليمن في يوم من أيام عام 1947 م : ( عاجل وسري للغاية... لقد نزلت بميناء عدن اليوم سفينة فرنسية تحمل على متنها شيخًا أسيرًا مكبلًا بالسلاسل، يشتبه أن يكون هو ذلك البطل الإسلامي الأسطوري الذي اختفى منذ عشرين عامًا....والسفينة في طريقها الآن إلى فرنسا وستمر غدًا بميناء بورسعيد المصري، لذا وجب التنبيه!) وما أن فرغ عزام باشا من قراءة هذه البرقية حتى طلب على الفور مقابلة مستعجلة مع (الملك فاروق) لمناقشة أمر هذه البرقية الخطيرة التي وصلته للتو من مضيق باب المندب، ودار نقاش سري بين عزام باشا والملك فاروق في قصر إقامته، وما هي إلّا لحظات حتى صدر قرار إلى الضباط المصريين في قناة السويس باعتراض طريق تلك السفينة الفرنسية وإحضار ذلك الشيخ إلى القصر الملكي في القاهرة للتأكد من هويته، وبعدها بأقل من أربع وعشرين ساعة أحضر الضباط المصريون إلى الملك شيخًا بلحية بيضاء كالثلج يمشى بخطوات ثابتة رغم بطئها، تبدو من بين قسمات وجهه الغائرة مظاهرٌ للعظمة والسمو لا تخفى على أحد، يلبس لباسًا أبيض غاية في البساطة، وتظهر على يديه وساقيه الهزيلتين علامات لسلاسل وأغلال وكأنها نُحتت في جلده نحتًا، فلمّا أصبح هذا الشيخ بين يدي الملك فاروق سأله ملك مصر عن هويته، فرفع الشيخ الكبير رأسه ونظر نحو الملك بعينين كعيني الصقر الجارح ثم قال بكل شموخ وثقة : (أنا الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي)...............
نرجع قليلًا في التاريخ، ونتحول إلى الغرب من القاهرة وبالتحديد إلى بلدة "أغادير" في الريف المغربي الإسلامي في سنة 1301 هـ/1883م، هناك يُرزق شيخ قبيلة من قبائل الأمازيغ البربر يدعى الشيخ "عبد الكريم الخطابي" مولودًا يسميه تبركًا على اسم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فقرر هذا الشيخ تربية ابنه تربية صالحة منذ نعومة أظافره، فقام بتعليمه اللغة العربية وتحفيظه القرآن، ثم أرسله إلى جامعة "القرويين" في مدينة "فاس" ليتعلم هناك الحديث والفقه الإسلامي، وماهي إلا سنوات حتى أصبح "محمد بن عبد الكريم الخطابي" قاضي القضاة في مدينة "مليلية" المغربية، في الوقت الذي كانت فيه ظروف المغرب الإسلامي آنذاك أصعب من أن يتخيلها إنسان، فلقد أدركت الدول الاستخرابية (الاستعمارية) أن بلاد المغرب الإسلامي تعتبر بمثابة مصنع للأبطال عبر التاريخ، فمنها خرج مجاهدو دولة "المرابطين" إلى الأندلس، ومنها أبحرت قوات دولة "الموحدين" إلى أوروبا، وقبلها أخرجت هذه الأرض (طارق بن زياد)، فلا بد إذًا من إنهاء هذا الخطر الإسلامي المستمر، فعقدت تلك الدول مؤتمر "الجزيرة الخضراء" عام 1906 بمشاركة 12 دولة أوروبية، ولأول مرة في التاريخ يظهر اسم "أمريكا" لتكسر بذلك الولايات المتحدة الأمريكية "مبدأ مونرو" الذي ينص على: "عدم التخل الأمريكي في السياسة الدولية"، كل هذه الدول اجتمعت من أجل انهاء هذا الكابوس الإسلامي المستمر إلى الأبد، فكان القرار النهائي لهذا المؤتمر: تقسيم بلاد المغرب الإسلامي ! فلم تكتفِ تلك الدول بتقسيم مملكة المغرب الإسلامي فحسب، بل قسمتها بطريقة خبيثة عجيبة لم تعرفها شعوب الأرض من قبل بحيث تضمن تفككها بشكل نهائي، فأخذت فرنسا القسم الجنوبي من مملكة المغرب "موريتانيا"، ثم أخذت إسبانيا القسم الذي يليه في الشمال "الصحراء الغربية"، ثم مرة أخرى فرنسا إلى الشمال من الصحراء "وسط المغرب الحالي" ثم إسبانيا إلى الشمال أيضًا في الساحل الشمالي للمغرب "الريف المغربي"، وبين هذا وذاك احتلت ألمانيا وبريطانيا مدنًا هنا وأخرى هناك، وظن الجميع أنهم بذلك أنهوا الوجود الإسلامي في بلاد المغرب الأبد، ولكن الشيخ عبدالكريم الخطابي وابنه محمد جزاهما الله كل خير كان لهما رأي آخر، فبدءا بتجميع القبائل المتناحرة على راية الإسلام الواحدة، ومراسلة الخليفة العثماني في عاصمة الخلافة، عندها قتل الأسبان الشيخ المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه الله، وأسروا ابنه الشيخ محمد، ووضعوه في أحد السجون في قمة جبل من جبال المغرب، وبطريقة أسطورية لا توصف، استطاع البطل بن البطل أن يصنع حبلًا من قماش فراشه ، ليحرر نفسه من نافذة السجن، ولكن لسوء الحظ أن الحبل لم يكن بالطول الكافي ليصل به من قمة الجبل إلى الأرض، فكان أمامه أحد خيارين، إما الرجوع إلى السجن، وإما القفز من ارتفاع شاهق على الصخور الصمّاء، فاختار البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي القفز، لتنكسر رجله ويغمى عليه من شدة الصدمة، قبل أن تكتشف سلطات السجن أمره وتعيده إلى السجن. وبعد حين من الأسر خرج الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من السجن ليكوِّن من رجال قبائل الريف المغربي جيشًا من ثلاثة آلاف مقاتل فقط، قبل أن يبتكر الأمير الخطابي فنًا جديدًا من فنون القتال العسكري كان هو أول من استخدمه في التاريخ الحديث تحت اسم "حرب العصابات"، وقد استخدم ثوار العالم بعده ذلك هذا الفن العسكري القائم على فنون المباغتة والكر والفر، فأصبح نظام قتال عالمي، مع الاحتفاظ للخطابي وأمة الإسلام بهذه العلامة القتالية المسجلة! ثم ابتكر الأمير محمد نظامًا آخر في المقاومة اعترف الزعيم الفيتنامي (هوشيمنه) انه اقتبسه من الأمير الخطابي في قتال الفيتناميين للأمريكيين بعد ذلك بسنوات، هذا النظام هو نظام حفر الخنادق الممتدة تحت الأرض حتى ثكنات العدو. فقام بذلك البطل الإسلامي الخطابي بتلقين الجيش الإسباني درسًا في فنون القتال، ولما تضاعفت خسائر الإسبان في الريف الإسلامي قام ملك إسبانيا الفونسو الثالث عشر بإرسال جيشٍ كاملٍ من مدريد تحت قيادة صديقه الجنرال (سلفستري)، والتقى الجمعان في معركة "أنوال" الخالدة، جيش أسباني منظم مكون من 60 ألف جندي مع طائراتهم ودباباتهم مقابل 3 آلاف مجاهد مسلم يحملون بنادق بدائية فقط، ولكن هذان خصمان اختصموا في ربهم، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى تقاتل في سبيل الأرض والصليب، فكان حقًا على الله نصر المؤمنين، وانتصر الثلاثة آلاف مجاهد تحت قيادة الأسطورة الخطّابية على جيش كامل من 60 ألف مقاتل صليبي، وقتل المسلمون 18 ألف أسباني، وأسروا عشرات الآلاف من الغزاة، ولم يسلم من الهلاك والأسر إلّا 600 جندي إسباني هربوا إلى إسبانيا كالكلاب الفزعة، ليقصّوا أهوال ما رأوا في الريف المغربي، وبعد ذلك أسس الأمير الخطابي لأول مرة منذ الاحتلال "إمارة الريف الإسلامية" في شمال المغرب الإسلامي، وخلال 5 أعوام من إمارته قام الخطابي بتعليم الناس الدين الإسلامي الصحيح الخالي من الشعوذة والدروشة، ثم قام بإرسال البعثات العلمية لدول العالم، وتوحيد صفوف القبائل المتناحرة تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم. وكما هو متوقع بعد كل صخوة إسلامية، اجتمعت دول الصليب مرة أخرى ( وهي التي لا تجتمع إلّا في قتال المسلمين! )، بعد أن أحست بخطر الدولة الإسلامية الوليدة التي لو بقيت لغيرت مسار التاريخ، فكوَّنوا تحالفًا من نصف مليون جندي أوروبي بدباباتهم وطائراتهم وبوارجهم الحربية، ليحاربوا به 20 ألف مجاهد مسلم فقط ! ولكن هل استسلم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي لكثرة عدد وعتاد الغزاة ؟ لا بد أن الخطابي كان يقف عند قول الله وهو يحفظ القرآن صغيرًا:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) لذلك استمات القائد الإسلامي البطل في الجهاد أمام نصف مليون من الصليبيين، فكانت المفاجأة الكبرى! لقد انتصر المجاهدون المغاربة في جميع الجولات التي خاضوها، فأوقعوا الخسائر تلو الخسائر في صفوف الغزاة، وعندما أدركت جيوش أوروبا المتحالفة أن هذا الرجل لن يستسلم أبدًا، قامت بشراء ذمم بعض شيوخ الطرق الصوفية المبتدعة، فقام هؤلاء بخيانة الأمير الخطابي الذي كان يحارب البدع الصوفية من الرقص والدروشة وإقامة الموالد التي لم ينزل الله بها من سلطان، فأصدروا فتوى تحرم القتال مع الخطابي، ثم قامت طائرات فرنسا وإسبانيا بإلقاء الأسلحة الكيميائية والغازات السامة على المدنيين، في الوقت الذي حاصر فيه الأسطول الانجليزي سواحل المغرب، فقاتل الخطابي أمم الأرض مجتمعة من خونة وصليبيين، ولم يبقَ حيًا من المجاهدين إلَا 200 مقاتل عاهدوا الله على الشهادة تحت قيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، فلم يستسلم أولئك النفر أبدًا حتى يأس الصليبيون من هزيمتهم، فلجأوا إلى إسلوب قديم ، لجأوا إلى طلب التفاوض مع الأمير وإعطائه الضمانات الموثقة على سلامة كل المسلمين وإتاحة سبل العيش الكريم لهم بكل حرية واستقلال، وكعادتهم، نكص الصليبييون بعهودهم، فقاموا بخطف الأمير الأسطورة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي ونفيه إلى جزيرة في مجاهل المحيط الهندي، ليس لسنة أو اثنتين، بل لعشرين سنة متصلة قضاها هذا البطل في أسر دعاة حقوق الإنسان، في أسر من خرجوا للعالم بشعار الثورة الفرنسية:(Liberté, Égalité, Fraternité) (حرية، مساواة، إخاء)، فأي حرية تدَّعونها أيها المجرمون في حبس شيخ ضعيف مدة عشرين سنة؟! وأي مساواة تتكلمون عنها وأنتم تقتلون نساء المسلمين وأطفالهم بغازاتكم السامة القذرة؟! وأي إخاء تسخرون به من عقول المغفلين بحضارتكم القائمة على دماء الضعفاء من البشر؟! فإن كان قتلكم للضعفاء من بني البشر حضارةً.... فسحقًا إذًا لكم ولحضارتكم تلك !
ولكن الله أبى أن يقر عيون أولئك المجرمين بالأمير محمد ، وبتدبير عجيب غريب لا يصدر إلا من رب العالمين، يسخّر الله الأسباب لتحرير عبده الخطابي بعد عشرين عامًا من الأسر في تلك الجزيرة المجهولة التي لو مات فيها ما علم به أحد، ففي عام 1947، أعلن ملك المغرب (محمد الخامس) رحمه الله استقلال المغرب، فقرر الفرنسيون الضغط على الملك بورقة الخطابي، فأصدر ( شارل ديغول ) أوامره بجلب الأمير الخطابي إلى باريس، ومكرت فرنسا مكرًا، ومكر الله مكرًا، والله خير الماكرين، فقد مرت سفينة الفرنسيين بكل غباء وعمى بصيرة في السويس المصرية ليحرره رجال مصر الأبطال.
وبعد .....كانت هذه بعض سطورٍ عن ملحمة إسلامية خالدة، هي غاية في البطولة والعظمة، لقائد إسلاميٍ عظيمٍ ضحى بزهرة شبابه لرفع راية لا إله إلا الله – محمد رسول الله ، ومما يحزن النفس ويدمي الفؤاد، أن معظم شبابنا لم يسمعوا باسمه قَط، على الرغم من أن كثيرًا منهم متيمون بأبطالٍ لم يحاربوا إلا أجل مصالح دنيوية ومبادئ شيوعية، فلو علم شبابنا ممن يعلقون صور الثائر الشيوعي (تشي جيفارا) أنه أتى للقاهرة ليتعلم من بطل الإسلام الإسطوري محمد بن عبد الكريم الخطابي، لتغير رأي شبابنا في تاريخهم الذي نسوه أو أنسوه(بضم الألف)،
من كتاب مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ لجهاد الترباني