كان من نتائج الاتفاق الفرنسي- الاسباني الموقع في مدريد بتاريخ 27 نوفمبر 1912م، أنه أعطى الحق لاسبانيا حرية التصرف في المنطقة المخولة لها، وذلك بمجرد مرور خمس عشر يوما من توقيع الاتفاق المذكور. كما أن بنود هذا الاتفاق نص في فقرته الأولى بوجوب إحداث منصب خليفة للسلطان المغربي في المنطقة الشمالية وحددت فيه مدينة تطوان عاصمة للخليفة السلطاني في الشمال ، وحتى يتسنى للسلطات الاستعمارية تطبيق سياستها في هذه المنطقة، قامت إدارتها المركزية في مدريد بإعطاء أوامرها لقواتها العسكرية المتمركزة في مدينة سبتة بإعلان الحرب على مدينة تطوان بقيادة الجنرال ألفاو الذي وصلته برقية بتاريخ 13 فبراير من مدريد تبيح له تدخله العسكري.
كان أول عمل قام به الجنرال ألفاو هو تمهيد الطريق من سبتة إلى تطوان، وذلك بمد أسلاك البرق بين المدينتين ، وأسلاكا تيلفونية لتصل بين النقط والاستحكامات، واحتل بعض المراكز هنا وهناك بدعوى حماية المواصلات والصيادين وخدام الطرق ومصلحيها.
وليبرر الإسبانيون احتلالهم لبعض المراكز داخل الأراضي المغربية، أشاعوا أن سكان بعض القبائل المغربية يعرقلون النقل والتجارة والمواصلات.
وبناءا على ذلك، احتلوا أولا كدية كنديسة، (جنب الفنيدق الذي كانوا يسمونه كاسطيبخوس Castillejos، ويبعد عن سبتة بنحو سبع كيلومترات)، ثم احتلوا مراكز أخرى في تلك الجهة أيضا .
وبعد ذلك قام الجنرال ألفاو بوضع خطة عسكرية حول محيط المدينة وذلك بإقامة نقط عسكرية في مجموعة من المواقع الإستراتيجية. وبهذه الطريقة، وصلت الجيوش الاسبانية في الثامن عشر من فبراير إلى نقطة المضيق Rincon، فكانت نقطة مهمة للوصول إلى تطوان .
وفي صباح يوم الأربعاء 12 ربيع النبوي عام 1331هـ 19 فبراير1913م تم احتلال تطوان. بجيش قوامه 2500 جندي فقط .
على كل حال فرغم تقاعس أهل تطوان وركونهم إلى الاستسلام، فإن مسؤولية احتلال تطوان لا يمكن أن يتحملوا مسؤوليتها وحدهم، لأن الاحتلال لم يكن وليد اليوم أو السنة، إنما جاء كنتيجة حتمية تاريخية شاركت في صنعها عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، فكان الاحتلال نتيجة حتمية.
- موقف سكان مدينة تطوان من الاحتلال الاسباني :
بعد سقوط مدينة تطوان تحت أقدام جيش الاحتلال، وقف فيه مجتمع الصفوة المثقفة، بكل فصائلها، من هذا الاحتلال موقف المتفرج. فالثابت تاريخيا أنه لم يحرك ساكنا ويغضب ويتحرك ضده، بل ركن إلى الاستسلام، وكأن الأمر لا يعنيه بالدرجة الأولى . وفيما يلي موقف هؤلاء الأعيان :
يقول الفقيه أحمد الرهوني في الجزء الثاني من مخطوطه عمدة الراوين في تاريخ تطوان :
"إن الدولة الإصبانية الفخيمة لما أتمت اتفاقية عام 1912م مع فرنسا، عينت حاكم سبتة في حينه وهو الجنرال فيليبي ألفاو مقيما عاما في هذه المنطقة المحمية، فقدم عاصمتها تطوان يوم الأربعاء 12 ربيع الأول عام 1331هـ(1913م) مصحوبا بأركان حربه وعدة طوابير من الجيش الاصباني والإفريقي الذي كان مؤلفا بسبتة لهذا الغرض، واحتل تطوان داخلا وخارجا احتلالا سلميا، وتلقاه الناس أحسن قبول، وخطب فيهم خطبة بليغة بين فيها مقاصد الدولة الحامية من هذا الاحتلال وهو المحافظة على الأمن وحراسة الخليفة وهيئته من ترامي اليد العادية، وتوطيد أركان الحضارة بالمنطقة، ومد يد المساعدة لأسباب الاقتصاد، وتسهيل المواصلة، وترقية التجارة . فسر الحضور سرورا عظيما، وهتفوا للدولة الحامية بالدعاء، ثم سار في الناس سيرة حسنة، مقرونة باللطف والمجاملة، وألزم الجيوش الحاضرة أن تسير بسيرته، فكان الناس مع الجميع في غاية النشاط والأمن...."
أما الشيخ التهامي الوزاني في كتابه "الزاوية" يقول وهو يصور لنا الخطر الداهم، وارتماء أعيان مدينة تطوان في أحضان الغزاة :
"قوبل جيش الاحتلال من أعيان تطوان يوم عيد المولد النبوي بكل ترحيب وتبجيل وقوبل باللبن والتمر ورايات الطوائف الصوفية وقد لبس أعيان البلد أفضل ملابسهم ليقابلوا جيش الاحتلال".
وقد حاول الأستاذ المريني العياشي أن يعطي تفسيرا واضحا يبين فيه الأسباب الجوهرية التي جعلت الإسبان لا يلقون أية صعوبة في احتلال تطوان . وذهب إلى أن جو الاضطراب والفوضى والتقاتل ودعوات العصبية الجاهلية السائدة بين قبائل جبالة من الأسباب التي سهلت على الغزاة احتلال تطوان، وأنه لولا ما حدث بالجبل لما استطاع العدو القفز من سبتة إلى طنجة.
ويؤكد هذا التفسير الأستاذ العربي اللوه حين يقول : "إلا أنهم كانوا في فوضى لا تتصور وعزلة لا تطاق، قد ضرب عليهم الحصار برا وبحرا، يعيشون في مجتمع ضيق محصور الجوانب لا يعرفون عن الخارج شيئا...بل كانوا مطبوعين على التنافر والتنابذ .
ويضيف الأستاذ المريني العياشي أن تقاعس، أهل تطوان في الدفاع عن مدينتهم مرده إلى قضية التواكل وهي طبيعة أهل الحضر كما يقول ابن خلدون في مقدمته "إن أهل الحضر يكلون أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تتولى حراستهم" .
إذن فاحتلال مدينة تطوان نتج عن الأوضاع السائدة بالمنطقة، وإنه لولا الشقاق والخصام بين أهل الجبل، وعدم الانسجام بين التطوانيين والجبليين لما استطاع العدو احتلال المدينة.
- موقف قبائل جبالة من احتلال الإسبان لمدينة تطوان :
بعد احتلال مدينة تطوان أدرك أهل الجبل حقيقة هذا الاستعمار، فلم يرحبوا بالمحتل الغاصب، ولم يقبلوا التعامل مع إدارته. وفي تلك الأثناء، تأسست رباطات استراتيجية بنواحي تطوان، انطلقت منها حركة جهادية قاد صفوفها قادة دعوا إلى مواجهة العدو والصمود في وجهه .
يقول أحمد الرهوني عن هذه المقاومة الشجاعة :
"ثم إن القبائل الجبلية قامت وقعدت لهذا الاحتلال وعقدت الاجتماعات الكثيرة، فقر رأيها على محاربة الدولة الحامية التي أتتهم حاملة في كفها الحضارة والتمدن العصري، ونصبوا على أنفسهم أميرا هو الشريف البركة سيدي محمد بن الولي الصالح سيدي الحسن العلمي دفين مدشر تاكزارت العروسي، وأسسوا رباطا بمدشر دار بن قريش وآخر بمدشر أبي ريان الوادراسي وآخر بمدشر صدينة الحوزي، ونصبوا الحصار على تطوان، وقطعوا الطرقات، ونهبوا القوافل، فاضطر المقيم العام لمقاومتهم وجلب عدة طوابير أخرى، وقامت الحرب على ساق واستمر الحال على ذلك".
ويقدم لنا محمد داود صورة واضحة عن شعور القبائل الجبلية نحو هذا الاحتلال. يقول داود : "فبعدما سمع رجال المقاومة الجبلية المحيطة بتطوان والقريبة منها بخبر الاحتلال، عادوا إلى قبائلهم، وشاع بين أهالي القبائل أن النصارى احتلوا المدينة ونشروا فيها الفساد فاجتمعت القبائل في الضريح المشيشي وأعلنوا الجهاد".
فتأهبت القبائل للدفاع ونظمت الرباطات وبدأت الإعانات تصل إلى عين الرباط مرفوقة بالمتطوعين. فأراد الإسبان اختبار مفعول الحلف الذي نظمه الجبليون ومدى قوة المجاهدين فخرجوا من تطوان في جيش جرار يوم فاتح رجب عام 1331هـ(1913م). وفي نفس الوقت خرج جيش آخر من أصيلا في اتجاه تطوان . ويصف لنا الأستاذ المريني العياشي أطوار المعركة بقوله : "وما كادت طلائعه الأولى تصل اللوزيين بضواحي تطوان حتى وجد نارا تصلى وجحيما لا يطاق وصمودا لا ينكسر. إنهم جنود الله البواسل قد لبسوا الجلابيب القصيرة وملأوا "زعابيلهم" بالرصاص واصطحبوا معهم رغائف من ذرة وصرة من دقيق الشعير المحمص والخروب وحبوبا من الزيتون والكرموص وانزووا وراء الأحجار وحفروا تحت جذور الدوم وعاهدوا الله على الصمود حتى النصر أو الاستشهاد...وأمام هذا الصمود انكسرت فلوله وتشتت جموعه، ورجع إلى الوراء يجر وراءه ذيول الهزيمة، وتلاحق به المجاهدون حتى أرغموه على العودة إلى تطوان وقد خاب ظنه وباءت تقديراته بالفشل".